Skip to main content

Essays | مقالات ذاتية

قبقاب الحَوْر

CONTRIBUTOR
المساهم/ة
Golan Haji | جولان حاجي

ARTIST
الفنان/ة
أسامة هابيل

TAGS
الوسوم
posts-issue12

PDF

SHARE POST
للمشاركة
CONTRIBUTOR المساهم/ة
Golan Haji | جولان حاجي

Golan Haji is a Syrian poet and translator with a postgraduate degree in pathology. He was born in 1977 in Amouda, a Kurdish town in the north of Syria. He studied medicine at the University of Damascus. He has worked as a translator from English and American literature, and has translated Robert Louis Stevenson's Scottish classic Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde into Arabic. His first collection of poetry in Arabic, Called in Darkness (2004), won the Al-Maghut prize in poetry. His second book of poetry, Someone Sees You as a Monster (2008), was published during the event celebrating Damascus as the Capital of culture in 2008. His next collection, My Cold Faraway Home, was published in Beirut. He lived in Damascus until he had to flee his country, and has now settled in France. Golan Haji contributes regularly to the cultural press in Lebanon. He has participated in many poetry festivals in Syria and all over the world. جولان حاجي شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.غيلان الصفدي فنان سوري مقيم في بيروت. قُدّمت أعماله، في معارض فردية وجماعية، في مدن مختلفة من العالم.

Golan Haji | جولان حاجي

بدنُك بعد الموت في محلّ قلبك قبل الموت

النفري —

 

خريف 2005، في ضاحية حرستا بدمشق، على الجهة الخلفية من مستشفى البيروني لمرضى السرطان، أراني مريضٌ من دُوما شجرة جوز ضخمة، تلوح في البعيد فوق سور المستشفى، وقال: «زارعها القاق»، ربما لأن الغراب قد يدفن جوزة مسروقة وينساها فتنبت شجرة في غير محلّها، خارج البساتين وباحات البيوت. اختفت من غوطة دمشق غياضُ الحور، شجرة مريم البتول لدى أوائل المسيحيين السوريين، وتبقّى المثل الشعبي الذي يشبّه الموت بقبقاب الحور، لا بد لكلّ إنسان من انتعاله ذات يوم. عنوان كتاب «قبقاب الحور» آتٍ من هذا المثل. 

في البداية، قسّمت المسوّدة فصلين؛ الأوّل هو «تحوُّلات كلمة لم تُقَلْ في اللحظة المناسبة»، والثاني هو «العين والخطوة» (العنوان آتٍ بدوره من مثلٍ آخر، كرديّ هذه المرة: «الإنسان عين وخطوة»).

المقتطفات المنشورة هنا مأخوذة من «تحوُّلات كلمة لم تُقَلْ في اللحظة المناسبة» الذي انفرد بنفسه ككتاب مستقلّ. استهلاله عبارة للنفّري: «بدنك بعد الموت في محلّ قلبك قبل الموت»، ثم يستغرق الصوت بضع ساعات من صباح مشرق قارس البرودة من يوم جمعة في شباط/فبراير، جوّاباً شوارعَ دمشق الخالية ومقهى الروضة الفارغ. كتبت هذا النصّ الطويل على فترات متباعدة بين عامَي 2005 و2010، أثناء سنوات الاختصاص الطبي في علم الأمراض، وتنقّلي بين عدد من المستشفيات الجامعية في دمشق وضواحيها. في تلك السنوات ذاتها، كان أسامة هابيل منشغلاً بأعمال الحفر التي تتجلّى فيها روح دمشق بالأبيض والأسود. كانت العين التي حفرتْ والعين التي كتبتْ تعبران الأمكنةَ واللحظات نفسها، دون أنْ يعرف أحدُنا الآخر، ثم ذهبت أصابع أحدنا إلى الأحماض والأصباغ والأوراق، وذهبت أصابع الآخر إلى الكلمات، حتى التقينا، بعد كلّ هذه السنين، في المكان الخياليّ الذي يتيحه لنا الفنّ والأدب.

ما تَرى؟ كُفَّ عن التذكّر. أوقفْ هذا السهو. يداك معقودتان في حِجرك. فُكَّهما واشحَذْ عينيك كي ترى. لا تشربْ شيئاً. لا تدخّنْ، وإنْ كانت هذه قطيعتُك المائة مع السجائرِ والمنبّهات. ستستنشقُ الحمرا الطويلة كأنها تبغ «كلان»، ولا تشعلها. علبة مختومة تفكّ شريطَها اللاصقَ، الأحمرَ والرقيق. النادل يراقب طريقتك في الإمساك بالسيجارة، فتنقلُها إلى يدك اليسرى. تمتنع من إشعالها، لأنك لا تُجيد التدخين أيضاً. تنجح في استنشاق نفَس واحد من بين عشرة. لا تجدُ لنفسك الحقَّ حتى في مثل هذه المتعة. لا انتظامَ في تدخينك، ولا في يقظتك، وحلاقةِ ذقنك، وميقاتِ نومك. تبغض اللحظة التي تتّخذ فيها أيّ قرار، لأنّ الانفراج مأزقٌ مُرجَأ. تدخّن عقب قلمك المعضوضَ، تنفث أنفاسَك؛ أنفاسَكَ الوفية حتى الآن، تغادرك وتعود إليك، تدفّئ راحتيك، وتبرّد حساءَ «الإندومي»، وتنفخُ رمادَ سيجارتك وغبارَ رفوفك وفتاتَ طعامك. تتهاوى وتبقى جالساً. شاغلك تصفيةُ ما لم تقلْهُ لأحد. تبطِئ تنفّسك. توقِفُه أطولَ وقت ممكن، كأنّك تحاول أنْ تضع علامات ترقيم اعتباطية لجملة طويلة، تعي إيقاعها ومدّتها، لكنك جاهل كلماتها. تفلتُ زفيرك ببطء، كأنك تتمرّن على الغطس داخل نفسك، لعلك قابضٌ زمامَها. تسطّح تنفّسك وتسرّعه قليلاً، مجزئاً إياه نفثاتٍ صغيرةً. تتبع خيطَ نبضك. تدرك أنّ جسدك يقضم حياتك، ولا يبالي بك. جسدك يخيفك. إنه شاهدٌ عليك، بحضوره الدائم الذي لا فكاك منه. ما همَّ أيُّكما سيخذل الآخر أولاً. أنت جارُ مَن يقتلك. فكيف ستسترخي؟

بأظافركَ تنظّفُ ما تحت أظافرك بعدما انتبهتَ إلى اسودادها. معك علبة كبريت من الباكستان، مزينة بفراشة، حافتها السمراء خشنة كجلد يدك في أيام الموسم الشتوي للعب الدحاحل. تشطر عود ثقاب منها، وتنكشُ أسنانَك في السرّ، ساهماً. تحكّ رأسه بحجر الطاولة. واحد من عديد إخفاقاتك، القديمة المتجدّدة، أنك لا تفلح في إشعال الكبريت من السطوح الملساء. ستشعل لمراهقٍ يعبر في النسيم الخفيف سيجارتَه من لُفافتِك (تقلبها وتناوله إياها من العقب، لأن الجمرة المرفوعة بعصة)، فَيُطَبْطِب على ظاهر يدك مُمْتنّاً ويمضي مسرعاً؛ ستُخرج بفتيلةِ منديل بعوضةً، أو رمشاً معقوفاً، اندسَّ في فُرْجة عينه الدامعة. تراقبُ نملةً ضالّةً، لا تدري مِن أين جاءت، تتعثّر بين أشعار سلامياتك كشامةٍ متنقّلةٍ، وأنت رفيقُ دربها. 

لا تصطكَّ بركبتيك تحت الطاولة الصغيرة، وكأنّ نواياك قد كمنتْ في هزهزاتِ ساقيْك، في ارتعاشاتِ أناملك، وربّما غيّرت رائحتك. ستستفزُّ شخصاً يقترب، متردّداً، ليقول: «كفى، توقّف لو سمحت. لقد أقلقْتَنا».

بالهدوء الذي تتيحه لك أنفاسك أثناء جلوسك، دُسَّ يديك في جيوب معطفك، أو بالأحرى جيوب بنطلونك، لأنها أدفأ. كلاهما بالٍ تقريباً. لن تُضطرَّ إلى المصافحة. اطمئنّ. اطمئنّ. اطمئنّ. لستَ تعرف أحداً هنا. بالأحرى، لا أحد يعرف مَن أنت. بِكفٍّ مُدّتْ سخيةً لن يعرّفك بأحدٍ أحدٌ. لن تطوي ساقاً على ساق، فيتسطّحَ ما بين فخذيك كأنّ عضوك اختفى، وتنضغطَ خصيتاك وتُؤلماك بغتةً، ويُرَى باطن حذائك مدروزة حوافّه بالمسامير. يتنمّل إحليلك. ألن يقتل ضيقُ بنطلونك نطافَك؟

إلامَ ستؤولُ، مسروراً لأن أحداً لن يتعرّفك إذا متّ فجأة، ولن يُصلّى عليك؟ لا تصطحبُ معك البطاقة الشخصية لأنك تخشى تضييعها أو كسرها، على الرغم من أنك جلّدتها تجليداً حرارياً في «كشك الحقوق»، وأنت في صورتها القديمة مراهق بازغ الشاربين، قلق العينين، متشنّج الوجه. ما أتيتَ إلى هنا من أجل أحد. لا مبرّر للإيهام بالمكر. لماذا تتفقد معصمك، العاري من ساعة يدٍ، متظاهراً بانقضاء وقت كثير على وصولك؟ وإذا لاقتْ عيناك، بمحض الصدفة، وجهاً لك به معرفةٌ ما، فسوف تتحاشاه. يخفقُ قلبك لهذا الخاطر، سيّان أفشيتَه لغيرك أو صمتّ عنه، إذْ قد تُتلِفُ كلمةٌ فاترة، أو إيماءة باردة، نهارك كلَّه.

أسامة هابيل، «شقّ», Mezzotint
29x39cm (2023)

لا تلبث أنْ تفكر في اللواتي احتقرنك (لا شكّ في احتقارهنّ لك، على الأقلّ بامتعاضٍ، أو تأفّفٍ، أو إشاحةِ وجه):

…المتبرّجات أمام واجهات سوق الحمرا؛ موظفات الاستقبال السوريات في السفارات والمراكز الثقافية الأجنبية والفنادق المعتدلة الفخامة؛ زبونات مصفّفات الشعر؛ الممرضات في المستشفيات العامة؛ الصحافيات والشاعرات الشابات؛ قاطعات التذاكر في كراجات حرستا ومحطة قطار الحجاز؛ طالبات المعهد العالي للفنون المسرحية؛ عاملات المقسم في الدوائر الحكومية؛ المومسات اليافعات؛ مضيفات الطيران؛ زوجات أصدقائك؛ سكرتيرات الأطباء المزدحمة عياداتهم حتى تفيض أدراجها بالمرضى؛ السائحات في باب توما؛ المحجبات اللواتي يقدن سيارات بيجو 405 (أم لعلها 504؟ لا تستطيع الجزم)…

في محاولة استرخاء ثانية، تلوذ بالغائبات اللواتي أغرمن بك (أو خُيّل إليك مراراً وقوعهنّ في غرامك، لحظة أو هنيهة أو دهراً):

…مريضات نفسياً؛ بضع شغالات فيلبينيات في حديقة الطلائع؛ إحدى جامعات الخبز اليابس في المباني الحكومية؛ بعض المراهقات الفقيرات في الضواحي وطالبات المدارس الإعدادية؛ اثنتان من كناسات المدينة الجامعية؛ بعض الكهلات النازحات بائعات الدخان المهرَّب وأوراق اليانصيب عند مبنى سانا ومدخل سوق الصالحية؛ العابرات المستغيثات بك أنت تحديداً بعيونهنّ من خلف بلور السيارات الضخمة؛ الغريبات الجالسات إلى جوارك في عتمات دور المسرح والسينما؛ الجالسات في المطاعم إلى موائد أخرى؛ الفارسيات ذوات العيون الواسعة الحزينة، المتسربلات بعباءات سود على سفوح قاسيون وأمام فنادق البحصة والست زينب، وفي أيديهن أكياس صغيرة من اللوز الأخضر، المبلل مع رشة ملح خفيفة؛ مومسات شائخات؛ زانيات نادمات، المخبئات سرّهنّ اللواتي سيلصقن بك تهمة افتضاضهنّ؛ الفتيات المودّعات في المطار وهن يتودّدن لطفل صغير كي يقتربن منك؛ السيدات المنتظرات تحت صنوبرات الأرصفة أنْ يتوقف هطول المطر؛ عاملة في مصنع سيرونيكس بالقابون؛ الأرامل الجالسات أمام جامع تنكز اللواتي قرفصتَ أمامهن لتتحقّق من أنهن يشبهن أمّك وأختك، مفكراً بالعظام الدفينة في لحومهن الحزينة، بالضلوع التي تطوّق قلوبهنّ كأصابعك هذه…

سنواتٌ عيشت بطرف العين، مرّ فيها قليلون. ومع هذا، لم تعرفهم جيداً، ولم ترَهم جيداً. لامسوا بهواء مرورهم جلدَك فأيقظوك. اَدِرْ عينيك يميناً (ولا تدّعي التعفّف إذا اشتهيتَ امرأةً تعبر). تتمنى عيناً أخرى في زاوية عينك تتيح لك أنْ ترى جانبياً، دماغاً ثانياً كدولاب الاحتياط داخل رأسك. راقبِ الشارع، ولا تنسَ: الأخوفُ الأدركُ. صِفْ ما ترى، مهما كان عادياً. لا تصفْ نفسك فتبتدئَ البلبلة.

الكلمة شجرةٌ تتفرّع في السماء. لحاؤها الصُّوَر- تحتها، فكرتك نملة تحفر نفقاً، يسري في ظلامه زمانٌ آخر، هو النسغُ السرّي لحياتك الصغيرة.

 أسامة هابيل، «تمثال وحائط»، حبر صيني على ورق بوليستر
29x21cm (2010)

كيف لك الخروج من نفسك؟ عبر عينيك، أو فمك، أو صماخ إحليلك، أو فتحات أخرى؟ تنسى جسدك، ولا تنسى نفسك. لن تعثر على أي طريق للرجوع إذا غادرتهما، أيها العائد دوماً إلى ما تهرب منه. العودة هي المستحيل الضروري. جسدك أخرس، وأنت الناطق عنه. يباركُك فتلعنُه.

جسدك زنزانةٌ سجناؤها يراقبونك (خليط مبهم تتبيّن فيه أطفالاً وحيوانات، يبدون لك محنَّطين، لا تدبّ فيهم الحياة إلا حين لا توليهم انتباهاً)، فيُجْهِزون بصمتٍ على ما يمكن أن يُدْعى «عفويّتك». أنت مَن تُخفي سجناءك، فتجبرهم الوحدة على ملاطفة فأر أو محادثة عنكبوت، تجبرهم على مراقبة صرصور ينسلخ أو ذبابتين تتسافدان. أنت قربان سجنائك، وهم ضحاياك. أنت محطّمُ أحلامهم، وحارمُ أصواتهم كالعورات من التنفّس. ربما هذا سبب تعبك.

ينقصك قليلٌ من البراءة. صمتك يمزّقك. إنّه سؤال موجّه ضدّك. ترجئ جوابه دوماً. ازددتَ عُرياً بعدما كففتَ عن الكلام. حاولت التخفّي وراء الاعترافات. قلتَ: «آن الأوان، سأقول كل شيء»، لكنك ما كنتَ تروي ذكرياتك حين رويتَها. كنتَ تطمرها بالثرثرة. وددتَ لو رويتَ شيئاً آخر غير ذاك الخزي. أنت أيضاً تحبّ النظافة، والبقاع الفسيحة، والنائية، والفارغة، ما وراء الأحلام والرغبات. لكنّ النسيانَ يخيفُك، منذ أمدٍ ليس بالقريب. أين المفرّ، والحاضر لا يُعاش إلا بالنسيان؟ ربما هواجسك استراحات عقلك، منشّطات لتنظيف ذاكرتك، الملطخة ببقاياك. ربما تنغيصك الوحيد للمُسْتَولين على حاضرك أن تنساهم. الأسماء، الوجوه، التواريخ، القصص… كلُّ ما سوف يُنسى، ثم يتلاشى تلقاءً لو تُرِك وشأنه. لن يكون هذا التلاشي جزئيّاً كواجهة قصر الحي الغربي في المتحف الوطني، بل تلاشياً مطلقاً، لأنّ هذا مآل الموجودات برمّتها. ما نظرتَ إلى شيء إلا ورأيت فيه نهايته. فكيف ستأبه باللحظة الباقية، الآن أو بعد ألف ألف عام؟

عليك أولاً إيصاد ذاكرتك، مثل بيوت المهاجرين في مساقط رؤوسهم، اكتظّت بأثاث اعتباطي تراكمَ عبر السنين (مَن يعِش وسط تلك المقتنيات، من التحف والتذكارات والهدايا، ورفوف الكتب التي تغطي الجدران حتى ملامسة السقوف، فسوف يخنقه الإحساس بالتفسُّخ لا بالدفء، وربما يرغب في تكويمها كلّها وإحراقها، خاصةً ألبومات الصور، المجلّدة بفرو الثعالب، وتلك الكتب الفاخرة، المذهّبة الكِعاب، الباعثة على الاعتزاز، المقاومة للنيران أكثر من غيرها)، ولهذا يسدّ المهاجرون شبابيكَ بيوتهم المهجورة بالطوب والخشب ولا يؤجّرونها، تتداعى ويكاد يفتّت الغيابُ ما عاشوه أو حلموا بالهروب منه، ولا يعودون، حتى تسمّم الأشباح كل لقمة باقية فيه كالخبز في مصايد الفئران؛

أو عليك إفراغُ ذاكرتك منك، شيئاً فشيئاً كالبيوت الغريقة بعد الفيضانات، أفرغْها براحتيك كاليائسين من قدوم أيّ عون؛

أو عليك الوصول إلى ذاكرة أخرى لا تميّز أزمانها، لا يضجرك فيها جريان الوقت في اتجاه واحد كالنهر، ولا تدّعي امتلاك أيّ ذكرى منها، خالية تماماً من الكلمات لكيلا يذكّرك كلُّ شيء بشيء آخر، آملاً برجوع كل شيء إلى حقيقته.

هذا المسمار، اللامع المدقوق في كرسيّك، مسمار، لا أكثر ولا أقلّ.

ابتعدتَ كثيراً عن طبيعة الأشياء. بُعد لا مسافة له، بُعد لا يُطاق، يفصلك عن أقرب شيء إليك.

تُجيل نظرتك على الطاولات. قطعة الرخام هذه، المقصوصة في مقالع القلمون، باردة تحت يدك، تصلح سقفاً لضريح أفكارك.

كثيرٌ حتى هذا القليلُ الذي تعرفه، أيها الغائب عمّا حولك. لستَ تعرفُ أكثر ممّا تُبدي. لستَ تعلمُ أيّ شيء خيراً من أيّ أحد. عما قريب، لن يتبقّى من كلّ شيء إلا عدمه. المسألة بالفعل مسألة وقت. لن يتبقّى من الحياة التي تتفلّتُ منك، بمحسوساتها وذكرياتها، إلا هذه الكلمات، ركامٌ من الإشارات المبعثرة في قصاصاتٍ لا تُحْصى كالفواتير وقوائم التسوّق في منازل عجائزَ موسرين فقدوا عقولهم. شيئاً فشيئاً، بتَّ عاجزاً عن وضعها في أيّ إطار. شيئاً فشيئاً، يتحوّل المنجم إلى مزبلة.

 أسامة هابيل، «عظمة سوداء»، حبر صيني على ورق بوليستر
29.5x42cm (2023)

أنت هذا اللحمُ، الكاسي عظامَك، الفجُّ في إفشاءِ مصيرك.

يوجعك بعضُك حتى يوجعك كلُّك. بغيضةٌ مفاجآتُ الألم، حين يرشق طبلة أذنك من الداخل مثل قذائف تومض في ليل بغداد، ثم يتوقّف. الألم دقيق، لولاه ما تشبّثتَ بما ترى. الكلمات طائشة متأخّرة. تدغدغ بلسانك التجاعيدَ في سقف حنكك، فتتراءى لك ضخمةً كتضاريس الجبال. ترقّص حاجبيك. تدفع فكّك السفلي إلى الأمام كفكّ جرّافة، فيطقّ مِفصله مثل صندوق محاسب في متجر عند ضغط الزرّ. ترفع رأسك. ربما هذه الطقطقة نذير بتصدّع أعمدة المقهى قبل انهيار السقف فوقك. إنها شبيهة بالتنهدات المحبوسة في بيت قديم يطلقها الأثاث عند هبوط الليل.

تكزّ على أسنانك حتى تجحظ عيناك كمصابٍ بالكزاز أو الإمساك، حتى تنتفخ زاويتا وجهك كحبّتي لوز، وتتجعّد رقبتك. تكزّ أكثر حتى تسمعَ الصريفَ وتظنّ أنّ أنيابك قد تخلخلت. تؤلمك قواطعك، كأنك تعثرت بنتوء منسيّ لا تريد أن تتحرّاه، أخرجه لك القدر من العدم، فعرقلك على طريقٍ ما معتمٍ داخل نفسك، وانكببْتَ على وجهك. تتحسّس جرحاً قديماً من جراح الطفولة سبق كلماتك كلّها، ثلماً في نتوء جبهتك، البارز قليلاً كقرن خروف. ندبة لا تكاد تُرى، من كبواتك الأولى أثناء تعلم المشي في البيت، حين ارتطمتَ بنصل حديدي، مغروس في إسمنت العتبة لتنظيف النعال من الوحل. 

جسدك يستر ألماً أكبر من حجمك. تلوي رأسك حتى توسّد أذنك كتفك. تلامس قصَّك بطرف ذقنك، المحلوقة مساء أمس، المثلّمة كإلية نعجة، فتترحّم على تلك السنين التي كانت فيها بصيلات لحيتك نائمة كدرنات البطاطا، حين كان خيالُك آمِرَ أيامك، حين صدّقتَ أنّ الروح خالدة.

هل صدّقت خلود الروح بسبب الكلمات؟ ما مضى ومات مضى ومات. هراءٌ كلُّ الهذر حول الجحيم. لا تغادر الروح إلى أيّ عالم آخر. إنها تبقى على هذه الأرض، وربما تختار لسكناها كلمةً ما، إنْ تاهتْ عنها تشرّدتْ. لا يدُكَ قفازُها اللحميّ، ولا وجهُك قناعُها، ولا قدماك حذاؤها الثقيل…

ليس هذا ما ينبغي التفكير فيه، ولكنك لا تستطيع إيقاف نفسك

تُرجِع رأسك نحو الوراء، إلى أقصى ما يمكن، حتى تخال قذالك قد لامس ظهرك. تمسّد كتفيك بِرفق، والعضلات على جانبَي رقبتك. تترمّد أساريرك. الألم يطفئ وجهك، يضبّب نظرتك، يسدّ منخريك، يخدّرك، يغيّر رائحتك فينفّر الآخرين منك. إلى أيّ حدّ المتألّمون كريهون وفوضويون؟ هل كنتَ تتألّم دون أنْ تنتبه، مثلك كمَن يتنفّس؟ أهذا ألم حقيقي تُقاس شدّته بمسطرة «إيفا»، المدرّجة من صفر إلى عشرة، يبطئ جريانَ الوقت، يهذّبك على الصمت والحياء؟ أم شبحُ ألمٍ مضى؟ أم آخرُ آتٍ ليستدرجك إلى الصراخ، وما تفعله ليس إلا محاولات لطرد أشباحه؟

ربما تبخّرت كلماتك عن آلامك، شفّافة كهذا البخار الصاعد من بشرة يدك، فوق ركبتك، في ضياء الصباح. لستَ متمارضاً، ولكن يخجلك القول إنك تتألم. تتهيّب الساخرين، والذين سيقارنون تفاهةَ معاناتك بجسامة ما يقاسيه غيرك. تتباعد شفتاك قليلاً. تلافياً لجفافِ حلقك الذي يوقظك في الليل (بهلع أحياناً، كأنّ ساعتك قد أزِفتْ)، تنام طاوياً لسانك الطويل داخل فمك. مَن يدري بمَ سيفكّر مَن يراك تتناول حبوباً بهذه البساطة؟ متوجّساً، تتلمّس البانادول في جيب معطفك. تمزّقُ قصديرَ حبّتين بظفرك، ثم تختلسُ بلعَهُما الشاقَّ بريقك الذي ينشفُ، بعدما عدَدْتهما بلسانك: «واحدة… اثنتان» حتى ذقتَ مرارتهما. بلْعتك مدوّية. كيف يفلح البعض في كتْم هذا الدويّ، فلا يُسمَع لبلْعهم أيُّ صدى؟ تعلو تفاحةُ حنجرتك وتهبط. ترجو ألّا يلمح أحد في هذا العلوّ والهبوط حرَجاً لا يخفى، أو شهوةً لن تُتَمّم، لأن امرأة عبرت فتحرّكت شهوتك. لعابك ممسكٌ بخناقك. تكاد تبصر الحبتين، عالقتين وراء الرغامى، لا تكملان سقوطهما، المتعثّر، البطيء، إلى معدتك. هما تنتظران، مثلك، الذوبانَ داخل ظلمات جسدك.

أنت بئر عينك، فأين دموعك؟ خشيتك، الآن، نضوبك. خشيتك خواؤك.

أنت ترجمان كلماتك، الببغاءُ الهرِم لجسدك الفتيّ.

توقّفْ عن تخيّلِ العابرين ثدييّاتٍ وفقاريّات تمشي على قدمين. توقّفْ عن تخيُّلهم موتى. كيف سترْأف بهم إنْ لم تعاملهم كأنهم سيموتون بعد قليل؟ تتخيّل طيفك، الأسود البعيد، بينهم يجوبُ الشوارع. هم مثلك، يسمعون صوتاً لا يسمعهُ أحد، يتردّد في خبايا رؤوسهم، مهذاراً لا يكفّ عن التعليق. صمتكم صوتُ هذه الظلمات، فكيف ستعيش من دونه إنْ خرس إلى غير عودة؟ تهاب صوتَ الظلمات، لأنك عبده الأمين، البطيء في الإملاء. إنه الآن، أيها الكرديّ، يناديك بالعربية الفُصحى. اكتبْهُ يسكتْ.

 أسامة هابيل، «شجرة»، حبر صيني على ورق بوليستر
29x21cm (2010)

جسدك سئمكَ. أعضاؤك في مخابئها، قبل الهروب في كلّ اتجاه كقطيعٍ من الحيوانات استشعر قبلك دُنوَّ كارثة، دون أن تعيَ ما جرى أو ما يجري، فارّةً من انهيار الزريبة الوشيك إلى أمان الفراغ؛ أو أنت مَن تغادر جسدك ركضاً. تفتح باباً بعيداً. تدخل. تتكتّف واقفاً قدام نافذة واسعة لا تطلّ على أي منظر. تقضم تفاحة خضراء صغيرة، حامضة، مملّحة. تنظر إلى كفّيك: أهكذا يكون الابتهال في بروفا بغير انتهاء؟ أتفكّر على هذا النحو، لأن أطياف ممثّلي الأفلام الصامتة لا تزال ترتاد هذا المقهى الحنون الذي كان، ذات يوم، سينما صيفية؟

تتحرّك، وجسدك ساكن. لا تريد الاستنجاد بأحد، حتى أقرب أصدقائك. يدٌ لن يراها أحد تمسح الغبار عن بلورات الثريا المعلقة إلى سقف جمجمتك، قفازها وردي كقفازات المطاط التي ترتديها ربّات المنازل ضدّ المواد الكاوية للمنظّفات، ثم تشتعل الأنوار، احتفالاً بوصولك إلى مكانٍ لا تعرفه داخل نفسك. ما أتعسَ وحدتك! تسمع مَن يُهنّئك: «أنت حرٌّ أخيراً، حرٌّ وحرّ! تفعل ما شئت، أنّى شئت!». ما أشقاها من حرية!

تلاقي قلّةً من أصدقائك القليلين، بالقبل والمعانقات، وراء عينيك. تمنّيتَ لو كنتَهم كلَّهم، لو تبرّعوا فألّفوا لك جسداً آخرَ أعضاؤه خليطٌ من أعضائهم، وغلّفوه بجلدك دون أنْ يخلّفوا ندوباً. لو يعطيك النجّارُ يمناه، الموسيقيُّ يسراه، عازف الغيتار أصابعه الطوال، الرسامُ عينيه، الراقصُ قدميه، المغنّي فمه، الصحافيّ الناشئ لسانَه السليط، العدّاء قلبه البطيءَ الخفقان، السبّاح صدرَه الواسع… حتى تصيروا بأجمعكم فصيلةً من المشوّهين، لن يجنّدها أحد حتى للتسوّل. لا تريد أعضاءهم النبيلة، ولا الحميمة.

«النبل» استعلاءٌ يغضبك.

«الحميمية» تضحكك — إنها كلمة صلعاء، لأن الأعضاء المحسوبة عليها مُدانة وحليقة كالسجناء.

ربما غياب أصدقائك يشوّههم. لا تعلم كيف ستختصر نفسك مثلما اختصرتهم. تريدهم حاضرين، رقيقين كما تحلم بهم، وإنْ كان مزاحهم كالطعنات في لحظات ضعفك. آلمتك تعليقاتهم كالملاحظات الوقحة للأوادم والمهذّبين، كالرومانسية التي تبلّل فجأة جفافَ الروايات الواقعية، ككحول التعقيم الذي يكشف خدوشاً خفية في أناملك. انتحلتَ مقولاتهم مراراً، أنت الذي لم تجترحْ أيّ قول تَدرج الأفواه على تداوله.

تتحرّك ظلالهم عشوائياً في داخلك. إنهم قلقون عليك. يحيطونك بالورد كالمريض، واقفين حول فراشك. ترى في حضن كل صديق كلمةً، يحملها ليواسيك: «نسيتني، لكني لن أنساك أبداً»، «كنتُ معك بكل جوارحي»، «اسمعْ كلام الطبيب»، «هوّن عليك»… البرد مرة أخرى. ترتجف كالمحموم. كأنها بوادر زكام داهمك بعد السير والوقوف المتكرريْن في جنازة طويلة تحت المطر. صديقٌ، بمريول أبيض، دقيقٌ في عمله، يلمس بجبهته جبهتك، ثم يجسّ معصمك، ويطمئنك: «طبيعي. تعبان، ليس إلا». يقول ثانٍ: «طالت قيلولتك حتى غابت الشمس». يقول ثالث: «إلى أين كنتَ ذاهباً في تلك العتمة المخيفة؟» يقول رابع: «ارتحْ قليلاً. عندك روماتيزم عاطفي»… وجوههم غامضة كأنك لم تعرفهم قطّ.

كان شعارك ذائع الصيت إذا خاصمتَ واحداً من أصدقائك: «لا تكلمني مرة أخرى أبداً». كل الوقت الذي ضيّعتموه معاً، خصوماتكم، مصالحاتكم، سندويشاتكم التي بلا مخلّلات، سهرات البزق والغناء والفضفضة طوال الليل، نوبات الضحك حتى الإغماء:

Xwedê zikê min çû

ضحكتم وواحدُكم يضربُ براحته فخذَ الآخر، لأنّكم سمعتم من يستخدم «بَوْح» في المديح (هذه المفردة البغيضة التي لا تستخدمها إلا كفعل أمر)، ضحكتم من النرجسية ووراثة الأنانية، وتضخّم الأنا، ومَن لا يرى أبعد من أنفه، ومَن يحوم حول سرّته كأنها كعبة الوجود… وكلّ كرخانة المصطلحات التي يُسجن فيها مجهولٌ لا اسمَ له ولا مواصفات (نعم، كرخانة مصطلحات، تؤكّد لنفسك، وتشتطّ: الحقيقة تُحنَّط كعاهرة مسجّاة على أريكة إمبراطور في متحف، فيما معظم العاهرات الفقيرات يكدحن بالوقوف عند مفترقات الأحراج والغابات، على الأرصفة المظلمة، تحت المطر…).

كنتم في الواقع يائسين، لهوتم حتى ضجرتُم وتعبتم، فبدأتم تدّعون الاستمتاع، بافتعال المزيد من الضحكات، بالتسكّع حتى الفجر في دمشق القديمة، ثم الدخول إلى مرقد السيدة رقية، لتناموا على سجاجيد الصلاة، تحت المكيّفات، كلٌّ يتوسّد ذراعيه، بين مصلّين جباههم مدموغة بشظايا الفخّار التي يسجدون فوقها.

كان أصدقاؤك حصنك في المصاعب. ما من داعٍ في وجودهم إلى الحمّالين والمحللين النفسيين وجلسات اليوغا الأسبوعية. عاونوك على نقل أغراضك بالسوزوكي من حيّ عشوائيات إلى حي عشوائيات، حيث وصلت مراراً إلى غرفة جديدة — ببقع كبيرة من العرق تحت الإبطين، بحذاءٍ خدشه مسمار أو يدٍ سلخها إطارُ باب، فتلزمك الفراشَ أوجاعُ ظهرك، بعدما تنطّحتَ لصعود الأدراج حاملاً برّاد «بردى»، غسّالة «وتّار» نصف أوتوماتيكية، كراتين المونة الثقيلة… أصدقاؤك أمّنوا لك بطاقات مجانية لحضور «لماذا؟ لماذا؟» بيتر بروك في دار الأوبرا، «جلجامش» آريان منوشكين في مسرح اتحاد نقابات العمال، «المهاجران» في ملجأ القزازين، حفلة زياد (كذا، من دون كنية) في قلعة دمشق… لكنهم الآن يربكونك. يرمقون صمتك، ثم يربّتون كتفك ويغادرون مبتسمين، تاركيك لوحدتك، تحصي من بقي منهم في البلاد، من سافر، من مات.

ولما خسرت أصدقاءك بدأت استعارة الكتب. تسترجعهم كأنك في مكتبة عامة تتصفّح قاموساً للجيب، عاجّاً بالأخطاء الطباعية، مستعجلاً العثور على إيضاحات لهواجسك (التوضيح لعبة مملّة في النهاية، إلا إذا كانت بينك وبين نفسك). أيادي المستعيرين تناقلت القاموس الصغير حتى اهترأ. تجليده رديء. انعقفت زواياه كأطراف غرّتك. الزمن والاستخدام يسمّكان هذا القاموس، لكنّ عدد صفحاته ثابت. زوايا بعضها مَثنية، لكنك لا تدري أين وصلت في هذه القراءة العشوائية. هل تقرأ لتحلم وتتذكّر؟ لا تحلو لك إلا صفحات الصور التي يجمع كلّاً منها حرفٌ واحد. تتغاضى عن الأخطاء الطباعية في البداية، لتستغرق في أيّ باب من القاموس الصغير، كيفما اتفق، حتى تفاجئك صفحة فارغة تنفي ببياضِها كمالَ الصفحات، فأخرى مزّقها مجهولون، فبضع صفحات ملتصقة كالتوائم السيامية (تبلّل إبهامك وسبّابتك لتباعدها قليلاً، تحاول استطلاع ما بينها، تتمزّق حافاتها دوماً، مهما تأنّيتَ في اعتنائك بشقّها، بالمسطرة أو السكّين أو خيط نكش الأسنان)، ثم تكتشف أنّ هناك صفحاتٍ عديدة مكرّرة، حروفاً بأكملها قد سقطت من قاموس الصداقة…

أترى أم تحلم وتتذكّر؟ استنبطْ أسئلة أنجعَ من هذه. لا لسان لما ترى فيسعفك بالردّ. اسعَ. عشت نصف حياتك مسترجعاً نصفها الذي يمضي، متذكّراً معظمَ ما يقع فور وقوعه. تتذكّر ما كنتَه منذ دقائق. تلتذّ بالحرية في تلك المسافة بين النظر والذكرى. ربما لذّتك الذكرى، فالحزن، على الأقل، قد يصفّي نظرتك من شوائب القلق، معكّراً كل لحظة تمرّ. قد تحميك الذكرى من انقلاب الملموسات أوهاماً، أو قد توهمك بأنّ الأمور هادئة وجارية على سابق عهدها. ما عشتَه هو مستقبلك. تهتزّ ركبتاك. تزجرهما. أتُسمّي ما تلاحظُه شيئاً جديراً بالذكر؟ أتسمّي هذا جهداً حقاً؟ عادة، يقتضي الجهد إرادةً ما في الفعل، فتؤدي عملك حتى لو كرهته. ألا تبدو مُرائياً في صَفْنتك هذه، مرائياً في حيائك، في اصطناعِك هذا الكبرياءَ، تدّعي السهو حتى تحرق جمرةُ سيجارتك شفتيك؟ تخشى أنْ تُرى مُدَّعياً، فتكاد تسمع من يقول: «انظروا الشكّاء النصّاب، انظروا إليه يشرب الكمّون بالليمون!».

تصنّعتَ مراراً الدهشة والانفعالاتِ التي أبديتها، وحزنك وقلقك أضحكا أصدقاءك. لا تروقك دعاباتهم غالباً. تأخذها على محمل الجد، وتفسرها حرفياً. يحاولون أنْ يعلّموك الضحك. لا شكّ أنّ تفكيرك شكلٌ معكوسٌ من التهريج. تحتاج الآن، في منتهى قلقك، إلى ضحكة حقيقية تتمنّع على صدرك. ضحكتك ذكرى ضحكة. كلمتك صدى موتك.

أسامة هابيل، «هيكل خلف المنزل»، حبر صيني على ورق بوليستر
22×29.5cm (2023)

أكلّما اتخذْتَ مجلساً أحسَسْتَهُ المكانَ الخطأ؟ تنقّلُ بصرَك وتُغْضِيه. يا قارئ الإيماءات، إلى متى ستحملقُ عيناك، الأَرِقَتان السادرتان، بما لستَ تدري؟ ترفع رأسك كأنك سمعت مطراً يهطل أو بكاء بعيداً. وجهك يوازي السقف. نلت نظرة ومضيت، أيها المثخن بنظرات الآخرين، كم أتخمتك ووسّختك. يا ململم النظرات، المتساقطة داخل بركة مظلمة من الظلال تحت قبّة جمجمتك. تتفشّى النظرة كأوبار البارامسيوم. يبدو لك ملمسها مساميّاً كالإسفنجة الناشفة.

حضيضُك داخل رأسك. قعر الحفرة وراء عينيك وحلٌ كالغراء، بعدما غاض الماء. جفّ دماغك حتى تشقّق. اختبرت مشقّات السير في الوحل ليلاً. تطقّ الخطوة المقتلعة كأنّ قدمك تمضغ قطعة قاسية من الأرض. صوت شنيع. دمك نابض في ذاك السواد. صدغاك يثقلان ويتنمّلان. عيناك، مثل خلّاطيْن مكتومَي الصوت، تزوبعان ما ترى في جوف ما رأيت (أو العكس؟). تحتمي بسرعتهما من تقاعس الكلمات. عيناك العسليتان تسكبان خليطاً لزجاً داخل رأسك. عقلك، مثل عجوز أدرد، يعاف هذه الوجبة المهروسة. أفكارك عالقة بهذه اللزوجة كالنحل في وعاء مربّى.

مرة، في صغرك، حاولت أنْ تنقذ نحلة من الأسْر، فقطعتَ جناحها. كنت وحدك. سمعت طنينها فصعدت السلم الحديديّ الساخن، فيما ضياء الظهيرة الساكنة غامرٌ سطوحَ البيوت، حيث نُضّدت عشرات الأواني المملوءة بالمربيات وعصير البندورة، مغطاة بمناديلَ بِيضٍ من الكتّان، تحت شمس آب. في تلك اللحظة نفسها، فيما الجناح الصغير الشفاف مقطوع بين سبابتك وإبهامك، وصاحبته في الإناء ملتصقة بمشمشة مطبوخة، أحسستَ بخيطٍ ما يتقطّع في قلبك. أدركتَ «النِّياط» قبل أنْ تعرف اسمها.

تبثّ الذكرى، في برد هذا الصباح، موجةَ حرارة تلفح صدرك. تبتلّ راحتاك قليلاً.

ربما التذكُّرُ المستديم عطَّلَ حواسَّك، علَّقها كليلةً إلى حين، أمْرَضَها وحجَرَ عليها.

تسترجع تاريخ اليوم، بإضافة سبعة إلى الجمعة الماضية التي صادفت رأس شباط.

أنت، الآن، جالس في منتصف نظرتك. لا تتقدّمُ الزمنَ، ولا تلاحقُه. لديك وقت مستقطع، بضع سويعات تتمهّل في إنفاقها. ما من ساعة ستضيع ما دمت حالماً.

بدأَ إبطاك يرشحان أوّلَ عَرقِهما، كأنّ عرقك بناتُ خيالك الذي ما تورّعَ ولا تاب. تحسّ بقطرةٍ منه تتشكّل وتكبر على صدغك، قبل انحدارها على خدّك.

سيرميك ألمك كقطرة عرق ضخمة على عتبة كلمة لا تستطيع أنْ تقولها.

أيها المطبوع على إرجاءِ ما اعتزمْتَهُ أو أُوْكِلْتَ به، متى ستتغيّر عاداتك الجديدة، على شاكلةِ سفرِك المفاجئ، أو استيقاظِك المتأخر هذه الأيام؟ قطعتَ أزقة ليس فيها كوّة واحدة، ثم ذرعتَ شوارع كلُّ شبابيكها موصدة، حتى وصلتَ إلى هنا. جئت، وما كنتَ قد قررت هذا المجيء. لا جرسَ على الباب النحاسيّ للمقهى لتقرَعَه، مبلول اليد، فيصعقك ويوقظك على حقيقة ما حولك. ما دفشْتَ الدرفة الموَاربة، ولم تتردّدْ «ادفعْ» أو «اسحَبْ»، لأنّك تلمسُ الأبواب بهدوءٍ وبطء، كأنك بتسلّلك ستوقِظُ نائماً يفزعُك غضبه.

عليكَ أنْ تحمل جسدك لتطعمه، وتنزّهه، وتغسله، وتلبسه هذه الملابس السميكة الثقيلة، وتجيب باقتضاب، عند الضرورة، عمّا يوجعه، متجنباً، قدر استطاعتك، ظهور البلاهة، المتربّصة بأيّ فعل يؤدّيه. كلّ ما يتوقّف عقلك عنده يتحطّم، ويجرحك أولاً. يتدخّل الوعي مُضحِلاً عمقَ كلّ ما ترى. الأوهام وقود الحياة العادية. هوذا يوم جديد لم تُحَيِّ فيه أحداً بعد، تدّعي في مستهلّه البحثَ عن غايات جديدة. لكنّ المغامرة أكبر منك. الخطر محدق. الحبّ ينأى. عليك أن تعيشَ حياةً هي تفسيرٌ متواصل، أو بحثٌ متواصل عن سبب واحد كي تحيا.

 أسامة هابيل، «مظلة»، حبر صيني على ورق بوليستر
29x21cm (2010)

الخيبة كبيرة المعلمات. هل غادرتَ حقاً إلى أيّ مكان؟ ابتعدتَ كثيراً عن هذا العالم، ولم تصلْ إلى أيّ عالمٍ آخر. حياتك السابقة تختفي، والحياة الجديدة لا تبدأ، وأنت مرهَق من عبء هذين الاختفاءين على كاهليك، يكاد يسحقك. اختفاؤك راحةٌ وخطرٌ يلازمانك، قد يقع الآن. عشتَ بالفعل على شفير العدم. قد يختفي كلُّ ما حولك في أيّ لحظة، دون أنْ تبتلعه الأرض، مثل تصعّد النفتالين. هذا جزء من مصاعبك اليومية في الرجوع إلى الحياة اليومية. ما عدت تدري ماذا تريد في هذه الآونة. لست تدري أين أنت، أو لماذا تتكلّم. كلُّ ما في الأمر أنّك منتبهٌ إلى ما يمضي. الساعات تمرّ. ثمينةٌ كلُّ دقيقة، أمَضُّ من سابقتها وأجمل.

مَن خدعك بأنّ هذا الصوت داخل صدرك ينقل الحقيقة؟ من غرّرك بأنّ الاستماع إليه هو الصواب والصدق والنجاة… إلخ؟ شرودك مزيّف لأنك عاجز عن تعطيل انتباهك. لم تستطع قطّ ألّا تنتبه.

لا مناص ممّا أذعنتَ له وزاولتَه. الانتباه والتحديق المتواصلان أفسدا عليك إمكانية الاستمتاع، صانعَين هذه الغرابة التي تطوّقك.

تبدو عاجزاً عن السير بمفردك على خلاء الأرصفة، خائفاً من وحدتك في هذه الشوارع المفتوحة — أقفرتْ أو اكتظّت، ضاقتْ أو رحبت، ترامتْ أو قصرت… تمرُّ وتَنسى. تمرُّ وتُنْسى. لم تُضِفْ شيئاً. لم تنَلْ شيئاً. إلى متى سيحثّك كل ما تراه كي تتأنّى؟ خللٌ ما يعتور ما تراه، فينبهك إلى خللٍ آخر يعتورك. ما تنقله عيناك يتحوّر ويتوه عن ثبته. إلى متى؟ طال تهيُّؤك، وما صرت لمّاحاً ولا مجدّداً. لم تُفحِمْ مجادلاً بقوة حججك. لحسن طالعك، لم تجتذب أعداء ولا مريدين. ربما فات أوان خياراتك في عزلات الهواء الطلق. تحدّق بالمراوح والقناديل على جدران هذه القاعة الخالية، وتُميل جسدك يساراً لتسترق النظر إلى نصف وجهك، عابساً في مرآة الحلاق. من تقاطيعك يتصبّب ندمٌ على الصرامة. ستكرّس ما تبقى من شحيح الوقت للتهكّم بنفسك.

تتنقّل داخل غيابك. من يراك، الآن، يرى فيك أحداً سواك. مرة أخرى، يدهشك أنك لستَ سواك. هذا يحزنك ويمتعك معاً. أنت هو أنت، وأنت مَن ينقُصك. فأيُّ هزَل أبلغ إيلاماً من هذا؟

أستبكي كطفلٍ حطّم بحجرٍ ساعةَ البيت ليقتل الوقت؟

أم ستقفز من حجر إلى حجر في نهر الوقت، مادّاً يدك إلى جسدك الغارق فيه، لعلك تنقذه؟

ترفع عينيك، كمن أيقظه البكاء بعدما سمع، في منامه، دموعاً ذات أقدامٍ صغيرة، جافّة.

ليست هذه السماء الصافية مكتباً للمفقودات، لتراجعه بعد سفر طويل، وتسأل الحرّاس عن طفولتك.

هل جُننت؟ جنون الاستمرار في المشي والنظر، جنون محاولات الالتصاق بالأشياء، جنون مواصلة العيش في بلد لا تطيقه ولا يطيقك.

الحياة كمينٌ تُقتَل فيه البراءة، وينجو منه الجهلُ.

 

أنت هذا الذهاب والإياب. أنت خطوتك. محضُ خطوة على طريق ينهار وراءك.

حصل لك كلّ شيء، فأين غناك؟ فاتَكَ كلّ شيء، فأين فقرك؟

دمشق 2005-2010
سان دني، فرنسا 2023
(إلى دلشاد أحمد وبيار معزول)

Author

Golan Haji is a Syrian poet and translator with a postgraduate degree in pathology. He was born in 1977 in Amouda, a Kurdish town in the north of Syria. He studied medicine at the University of Damascus. He has worked as a translator from English and American literature, and has translated Robert Louis Stevenson's Scottish classic Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde into Arabic. His first collection of poetry in Arabic, Called in Darkness (2004), won the Al-Maghut prize in poetry. His second book of poetry, Someone Sees You as a Monster (2008), was published during the event celebrating Damascus as the Capital of culture in 2008. His next collection, My Cold Faraway Home, was published in Beirut. He lived in Damascus until he had to flee his country, and has now settled in France. Golan Haji contributes regularly to the cultural press in Lebanon. He has participated in many poetry festivals in Syria and all over the world.

جولان حاجي شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.غيلان الصفدي فنان سوري مقيم في بيروت. قُدّمت أعماله، في معارض فردية وجماعية، في مدن مختلفة من العالم.

Golan Haji is a Syrian poet and translator with a postgraduate degree in pathology. He was born in 1977 in Amouda, a Kurdish town in the north of Syria. He studied medicine at the University of Damascus. He has worked as a translator from English and American literature, and has translated Robert Louis Stevenson's Scottish classic Strange Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde into Arabic. His first collection of poetry in Arabic, Called in Darkness (2004), won the Al-Maghut prize in poetry. His second book of poetry, Someone Sees You as a Monster (2008), was published during the event celebrating Damascus as the Capital of culture in 2008. His next collection, My Cold Faraway Home, was published in Beirut. He lived in Damascus until he had to flee his country, and has now settled in France. Golan Haji contributes regularly to the cultural press in Lebanon. He has participated in many poetry festivals in Syria and all over the world.

جولان حاجي شاعر وكاتب سوري كردي، مقيم في فرنسا. نشر العديد من المقالات والدراسات والترجمات، الأدبية والفنية، في صحف ومجلات عربية وأجنبية.غيلان الصفدي فنان سوري مقيم في بيروت. قُدّمت أعماله، في معارض فردية وجماعية، في مدن مختلفة من العالم.