ربيع علم الدين ترجمته من الانكليزيةُ علا عبدالله
بعد سنين عدّة من القطيعة، تلقيت ظرفًا من بيروت من أخي مازن. لم يكن يحوي غير صورة بالأبيض والأسود. فتحت الظّرف أمام صناديق البريد في ردهة المبنى المظلمة وحاولت أن أفهم السّبب من وراء إرسال مازن لصورته مع زوجته بدون رسالة أو حتى كلمة واحدة، فقط صورة حفل زفاف مبتذلة: الزوج خارجان من الكنيسة؛ مازن كشاب ممتلئ بات يتبع خطى أبيه ببدلة وربطة عنق سوداوان؛ البهجة في وجهه على شكل إبتسامة وحبوب الأرز ملتصقة بشعره الممشّط بإتقان. كان وقوعه في الحبّ واضحاً من نظرته لعروسته؛ بينما هي بتصفيفة شعرها المنمّقة، التي تتخلّلها خصلات فاتحة اللّون وزهور غاردينيا، تنظر للكاميرا بإيحاء وكأنّ نظراتها الشّزراء تعلن: "سأمنحه ليلة الزّفاف ولكن بعد ذلك كلّ الرّهانات باطلة"
لو كّنا لا نزال على تواصل لكنت حذّرت مازن المسكين. تطلّقا بعد عشر سنواتٍ من الجحيم.
في ذلك الوقت لم أفهم ما الذي كان يحاول فعله. إذا كان يريد التّواصل معي، لماذا أرسل لي صورة؟ لما لم يرسل رسالة أو لم يقم بإتّصال هاتفيّ؟ هل اعتقد أنّني سأغفر له ازدواجيّته بهذه البساطة ؟ كان أقرب صديق إليّ، بل صديقي الوحيد، وسنَدي ورفيق دربي. تشاركنا فراشًا حتى أتمّ العاشرة، مستلقين سويًا على ذات الشّراشف القطنيّة، وهجرني.
أرسلت ردّي بصورة لي ولحبيبتي. كنّا أنا وهي شباب وفي غرام سحاقيّ كما أظهرت الصورة. كنا مستلقين فوق بعضنا في سنترال بارك، متوّجين بهالة من ضوء الشّمس المجيد وغيمة من البرغش الغاضب. كنت متباهية بشعري الكثيف وعلى ثديي النّاشئين طبقات من البلوزات اللواتي يطابقن موضة مادونا في بادئ شهرتها.
قبل عشر سنين ربحت منحة دراسيّة شاملة بكلّ معنى الكلمة لجامعة "ييل" وكل هذا البرستيج أعطاني بركة أهلي.
"ارحل، ارحل أيها الشاب، ليكن الله معك –ارحل وعُد لنا مع الثروات التي لا توصف وقليل من الثّقافة لنتثقّف". رحلت عن لبنان وتأقلمت في الجامعة لأتغيّر من شابٍّ مكتئب لشابٍّ غاضب. طفولتي المذلولة:
"لا تفعل هذا".. "الصبيان لا يفعلون ذلك".. "يجب عليك أن تحاول أن تكون طبيعيا كباقي الصبيان"..
كل هذه العصي والغصينات، تُضرَم جافة لتنفجر وتتحول إلى غضبٍ متوقّد. كلّ شيء كان خطأ عائلتي، بالتّأكيد كان خطأهم. كأسي المتصدع مروياً بالحنق المنصهر الذي لا يمكن لأي وعاءٍ احتوائه. مكالماتي لعائلتي بدت أكثر صخبًا وأقلّ تكرارًا. المحادثات من جهتي تكوّنت من مختلف الصياغات لمعنى واحد.. "أكرهكم، أحقد عليكم، لم تحترموني، لم تفهموني، أنا تعيس وأنتم أتعستموني، أُطالب بالعدالة، احتقركم". الغضب كان شكل أنفاسي والغيظ كان صوتي. رعرعت البغض بداخلي كزهرة في دفيئة. أمي حرصت أن تُفهمني أنّي شوّهت سمعة العائلة، أنّه لكان سُخِر منهم وهُزأ بهم بسببي وبسبب اختياري لطريقة عيش حياتي.
لا أعرف ما كانت القشة الأخيرة، أتغيير اختصاصي أو جندري . غيّرت من تخصّصي في الطّب إلى اللّغة الإنجليزية في بداية سنتي الثانية. ثم خرجت للعلن مكحل العينين وراسمًا شفتي بالروج الأحمر الرماني في منتصف سنتي الثالثة. أعلنت أمي أنّي ما عدتُ من الأحياء. وأن لا أحد سيتكلم معي أو عني، لا أبي ولا أشقائي. قتلتني.
لا شيء أذاني بقدر قطيعة مازن لي. عندما كنّا صغاراً كنت أستيقظ هلِعًا في الظلمة وخائفآً لدرجة التقرّب منه في سريرنا الصغير واحتضانه بشدة. كان يبادر بسكب الطمأنينة في أُذنيّ. "الكابوس ليس حقيقي"، كان يخبرني، "لا يمكنه أن يؤذيك".
كنت على يقين أنّي لن أغفر له خيانته.
لكنّه تسلّل عائداً إلى حياتي، انزلق في الماء بحركة هادئة. تبادلنا الصّور لسبع سنين ولكن من دون كلمات. علاقتنا أُستُنقِصت في مراسلات فوتوغرافية. لم يكن إلا لاحقًا، عندما زارني لأول مرة حتى عرفت أنه أقسم لتلك المشعوذة الشّمطاء التي هي أُمه أنه سيقطع لسانه إذا نطق بكلمة واحدة لي وأنه سيقطع إصبعه إذا كتب حرفًا واحدًا لمسخ العائلة. بدل ذلك، كان يرسل لي صورته على شاطئ بيروت وأرد عليه بصورة لي ولزوجتي بتنانير متطابقة. تلقيت صورة لإبنه وأعدت له صورة لإحدى قططي. رفضت أن أميل أولًا. طوّقت قلبي بالحديد. كنت أنا الأقوى.
حين نشرت كتابي الأول لم أعتقد أن أحد في بلدي الملعون سيلاحظ دار النشر الصغيرة أو اسمي المختلف أو شِعري. كيف لمازن أن وجده، لا أعرف. تلقيت صورة له حاملًا رضيعه الثاني في ذراعه الأيمن وحاملًا "الرسائل" - مفخرتي بغلافه الورقي - مع العنوان متمركز في ما كان من المفترض أن يكون موقع قلبه.
مال هو أولًا. تلقيت صورة بمقاس 4 في 6 لإبنه بأنف ينزف قليلًا. أُلتقطت الصورة بعجلة وإنارة سيئة من المرجح أنها إنارة حمام. على وجه الفتى ذو العشر سنين سيلٌ من الدم الذي خطّ وجهه من أنفه إلى شفته العليا لينحني حول زاوية فمه وينزل إلى ذقنه. الفتى لم يكن يتألّم بل كان ينظر للكاميرا بفضول أو بالأحرى يتسائل عن سبب اندفاع أبيه لأن يخُرجها.
حين رأيت الصورة حبست نَفَسي لنبضة.. نبضتان.. ثلاث..
على ظهر الصورة مازن قد كتب "أظلّ أبصرك".
ولابدّ للحديد أن يصدأ.
حين كنت في العاشرة من العمر، متنمرٌّ في المدرسة ألقى بي على الجدار وبدأ أنفي بالنزيف. مازن، آنذاك كان في عمر الحادية عشر، أخذني إلى الحمام وساعدني في مسح الدم عن وجهي. فوتّنا حصتين ونحن نختبئ محتضنين بعضنا بالحمام. وجه الفتى بالصورة هو نسخة طبق الأصل عن تلك التي رأيتها ذلك اليوم في المرآة. ابن مازن يشبهني أكثر مما يشبه أبيه. ردّي لم يتضمّن صورة. بالمثل، بدأت بجملة واحدة، الفاتحة لما تبعها من أحاديث. في منتصف ورقة بيضاء كتبت "لم يخمد اشتياقي لك يومًا".
You may see the original at The New Yorker
https://www.newyorker.com/books/flash-fiction/break