ميليا عياش | ترجمة زينة الحلبي | رسم لينة غيبة
أنت ممثّل. ينبغي لجسدك وصوتك أن يكونا دائماً في جهوزية تامّة، حتى لو لم تكن في صدد التمثيل. فقد تفاجئك فرصةٌ تأتيك من حيث لا تدري. ورغم أنّ فرص التمثيل قليلة ومتباعدة، عليك أن تعمل جاهداً للحفاظ على صحتك الصوتية. لكن، قد تتساءل ما الذي سيحدث لو كنت، ذات ليلة، تشاهد عرضاً في مسرح نخبويّ متداعٍ، فتبدأ هواتف الجمهور بالإضاءة والرنين فيما أصوات الإنذارات والفرقعة تخضّ فورمايكا خشبة المسرح. الثورة انطلقت. لم تكن تتوقّع ثورة هنا، في أقلّ بلد في العالم استعداداً للثورة. ولكن، ها أنت تثور مع آخرين كنت تظنّهم خانعين خاضعين. ولكن لا تتّخذ من الحدث حجّةً كي تعيث بصوتك خراباً. في ما يلي بعض النصائح للممثّلين الناشطين في الثورات، وهي عديدة، وتزداد في كلّ زاوية من العالم حيث فيها الناس النيوليبرالية وهي تُجرّد البشر من إنسانيتهم.
١. التسخين (الرسم التوضيحي ١). حتى عندما تُستدعى لملء الساحات وقطع الطرقات قبل طلوع الفجر، احرص على تسخين صوتك، وذلك قبل إضرام النار في حاويات النفايات وقطع الطرقات بجسدك. غالباً ما ترافق هذه الممارساتِ الثورية أناشيدُ وأغانٍ. في أيام الثورة الأولى، ستعمّ البهجة، إلى حدّ سيجعل منها تهمةً يستخدمها البعض لاتهام الثورة بأنها ليست إلا "مهرجاناً كبيراً". لا تُخفض صوتك لأنك تصدّقهم. بل اخفضه لأنك، بصفتك ممثّلاً، لا يمكنك أن تنشد بصوتٍ عالٍ، في وقت باكر جداً، وبوتيرة كهذه. لذلك اعتبر هذه التظاهرات الصباحية مجرّد بروفات تتمرّن فيها قدر الإمكان. إن لم تسخّن صوتك بشكل كافٍ، قد تخسره قبل أن تستقيل الحكومة، ممّا يؤدّي إلى إحباط الثورة.
٢. عليك بالشرب (الرسم التوضيحي ٢). عليك أن تشرب حوالي ثماني كؤوس من الماء يومياً، وإن كانت الدولة لا تؤمّن مياهاً صالحة للشرب (وهذا من الأسباب الكثيرة التي دفعتك للاحتجاج، خصوصاً وأنّ بلدك غنيّ بمياه الأمطار التي تفيض على الطرقات وتضخّ مياهاً آسنة في الشوارع). هناك دائماً أطفال يبيعون قناني مياه بلاستيكية أينما حلّت التظاهرات. ضعْ بعض المال جانباً لشراء الماء طوال النهار، كي لا تجفّ حبالك الصوتية. أما قناني البلاستيك الفارغة، فارمِها في الأكياس الموضوعة مؤقّتاً في الأماكن الثورية المعتادة. غالباً ما تشتعل تلك الأكياس عندما تُقذَف حاويات النفايات وتُضرَم النيران فيها. فالطريقة الوحيدة لجعل الدولة تستجيب لك هي عندما تُشعل المدينة، فيضطرّون للالتفات إليك، فيتنحّون لاحقاً. في القرن الماضي، لم تحتج "الثورة" أكثر من ذلك كي تكتمل. ولكن كما تعلم، فإنّ تحديد ما سيجري لاحقاً ووجهة المجتمع بعد ذلك هي عملية شديدة الصعوبة. ولكن، في هذه الأثناء…
٣. تجنّب تنشّق الدخان السامّ المنبعث من النفايات والإطارات. حين تقف إلى جانب الثورة وجميع المواطنين الذين يسترجعون شوارعهم، تأمل أن تكون الثورة أكثر حساسية تجاه قضايا البيئة. الحكومة التي ظننتها قد استقالت، أعادت تدوير نفسها في صورة أكثر تقدّميةً (ألم ترَ الوزيرات الستّ؟)، فلم تترك لك، في الحقيقة، خياراً آخر. مجبر أنت على مواصلة الدعم لذاك التكتيك الثوري الخطير. وعليه، ابتعد عن الدخان وتنفّس من وراء الكوفية أو الشال الذي وضعته على فمك وأنفك. إذا لاحظت سواداً قاتماً عند التمخّط، تكون قد تنشّقت المواد الكيميائية. ولكن تذكّر أنّه ما قبل الثورة، كان لمخاطك صبغة السواد ذاتها بسبب المولّدات الخاصّة التي تبصق دخاناً على جميع أنحاء المدينة. فليست المشكلة أسوأ الآن إذاً.
٤. إيّاك والمشروبات المنبّهة. قد تستصعب البقاء صاحياً بعد شهرين من النشاط في الشارع، لكنّ الكافيين ينشّف الطيّات الصوتية فيصبح من الصعب إنشاد الأغاني الثورية ورشق الشتائم على السياسيين الراقدين في بيوتهم. تستخدم هذا التكتيك الجديد لأن عدداً كبيراً من المواطنين قد بدأوا يستغربون كيف أن الحياة لا تأخذ مجراها الطبيعي في زمن الثورة، فيتذمّرون من قطع الطرقات الذي شلّ حركتهم. لهذا السبب، اتجهتَ والمتظاهرين إلى منازل الطبقة الحاكمة. عوضاً عن المشروبات المنبّهة، حاول أن تشرب الحامض والزنجبيل الساخن الذي يطرّي الصوت. احرص على تخصيص وقت كافٍ في البيت لنقعهما، لأنّه من الصعب العثور على الزنجبيل لدى عربات الباعة الجوّالين، كما أنّ مقاهيك المفضلة كانت قد أقفلت أبوابها بعد الانهيار الاقتصادي، لأنّه لم يعد بإمكان أصحابها سداد إيجاراتهم. كل ما يمكنك شراؤه الآن هو قهوة تركية عكرة. حتى لو كانت مُرّة، وقامت بالواجب، فإنّها ستأتي بنتائج عكسية على الممثّل في زمن الثورة.
٥. نمْ جيّداً. قد يصعب عليك اقتلاع نفسك من الشارع فيما أصدقاؤك وزملاؤك وعشّاقك السابقون لا يزالون صاحين، كونها الفرصة الأخيرة لخلاص البلاد. ولكن عليك بالنوم جيداً. إن الإجهاد الجسدي يؤثّر سلباً على الصوت- لا تظنّنّ أن الإرهاق الصوتي وهمٌ! لذلك، إياك أن تضيء التلفزيون حين تعود إلى المنزل. حتى لو وصلت أصداء التظاهرات إلى البيت، يمكنك دائماً الاستعانة بسدّادات الأذن أو السمّاعات لإغراق صيحات الناس. إن شاهدت البث المباشر على التلفزيون، سيصبح النوم أصعب دون شكّ، لأنك سترى الكثير من معارفك يشوطون القنابل المسيلة للدموع ويتعرّضون للتعنيف والاعتقال على يد شرطة مكافحة الشغب. إن حدث وتمكّنت من جرّ نفسك من على الكنبة أمام التلفزيون إلى الفراش، لا تبقَ صاحياً متسائلاً كيف ستتطوّر الأمور، ولا تفكّر في شبح الحرب الإقليمية الذي يلوح في الأفق كما يدّعي الجميع، متمنياً لو لم تكن إبن هذه البلاد الملعونة، وكارهاً نفسك لأنك بلغت هذا الظنّ. قد تواسيك فكرة أن هناك شعوباً في جميع أنحاء العالم تمرّ بالتجربة ذاتها. قد يساعدك ذلك قليلاً، ولكن دعك منه: سيصبح النوم شبه مستحيل بعد كل تلك الأفكار.
٦. تجنّب قدر الإمكان الغاز المسيل للدموع. يلتصق الغاز المسيل للدموع بالرطوبة على جسدك، وقد يؤدّي ذلك إلى آلام حادّة في العيون وصعوبة في التنفّس. وبما أنّ السعال يثير الأوتار الصوتية، من الأفضل الوقوف جانباً عندما تشعر بأنّ الجموع تزداد صخباً فيصبح تفريقها بالقوة وشيكاً. قد يبدو ذلك صعباً، ولكن بعدما تجاوزت خبرتك في الشارع الأربعة أشهر، بتَّ خبيراً في قراءة المشهد: عندما يبدأ المتظاهرون برشق زجاجات مياه على القوى الأمنية، عليك الأمان. وعندما يرمي المتظاهرون عليهم المفرقعات النارية، تحضّر للانسحاب من وسط الجموع. وعندما يبدأون برمي الحجارة، سنْفِر بحياتك. لكن حتّى أكثرنا خبرةً قد يسيء قراءة المشهد، كما حدث ذات ليلةٍ عندما سقطت أربع قنابل مسيلة للدموع حول رجليك فيما كنت تتبادل أطراف الحديث مع أصدقاء لم ترَهم منذ ما قبل بداية الثورة. تذكّر أنّ الغاز المسيل للدموع وإن كان يستعمَل عادة لتفريق المتظاهرين، فإنّ حكومتك ترشقهم بقنابل ذات استخدام حربي يقال إنّها تحمل رواسب من السيانيد. بعد أن يتمّ رشقك بالغاز، قد تصاب بالعمى المؤقّت، مما يجعلك مشتّتاً، تائهاً. حينها، سيسهل عليهم إطلاق الرصاص المطاطي على وجهك (مما يتعارض مع المبادئ الأساسية للأمم المتحدة حول استخدام القوة والأسلحة، ولكن من يسأل أصلاً؟)، فيسهل عليهم اعتقالك. وإن حدث أن اعتقلوك، ستنهال عليك عناصر مكافحة الشغب ضرباً بالهراوات. يبقى الحرص على جسدك واجب كونك ممثّلاً، فإيّاك أن تتعرّض للاعتقال. لكن إن تعرّضت للغاز المسيل للدموع، حاول أن تبقى هادئاً واغسل عينيك بالماء والبيبسي أو أيّ خليط عجيب آخر يُبطل مفعول الغاز (ما مِن دراسات طبية وافية حول التداعيات الصحية للغاز المسيل للدموع). فاخلع ثيابك فوراً واستحمّ بماء بارد.
٧. لا تدخّن أو تعرّض نفسك للتدخين السلبي (الرسم التوضيحي ٣). قد تشعر بالتوتر بعد تعرّضك للغاز المسيل للدموع. عندها، قد يعرض عليك أحدهم سيجارة لتهدئة أعصابك: ارفضها بلباقة. فمن المعروف أنّ الدخان يهيّج الطيّات الصوتية وينشّفها، كما أن النيكوتين يسبّب الإدمان بقوّة. فلو بدأت بالتدخين خلال الثورة، قد يصعب عليك التوقّف لاحقاً، أي عندما يصبح لديك حكومة أو مجتمع جديدان يحترمان الفنون ويموّلانها، فتعود لمزاولة مهنتك كالمعتاد. ملاحظة: قد يقدّم لك أحدهم كأساً من الكحول أيضاً. في هذه الحالة، اعلم أن الكحول تُحبط المرء فيما تمتصّ الماء من جسده. فحتى لو غرّك "الاسترخاء" بعد التظاهرات، استعِنْ بطرق أخرى، كالتأمّل، مثلاً. أو اتصل بأصدقائك في العراق والتشيلي أو أي مكان آخر تشتعل فيه الثورة، كي تتشاركوا القصص وتطلب النصائح حول أيٍّ من المسائل التي تواجهها (مثلاً: كيف تسترخي). فقد كان أصدقاؤك حول العالم مفيدين جداً حين علّموك كيف تُعمي الدرونز كما شرطة مكافحة الشغب بالليزر، وكيف تضرب على الطناجر لإثارة أعصاب الشرطة. اشرح لأصدقائك البعيدين أنّ هناك همساً حول نية الدولة شطبَ ديونها دون أن تمدّ يدها إلى جيوب السياسيين، وذلك عبر فرض ضرائب جديدة على التبغ والكحول، أي السلعتين اللتين يعوّل عليهما الناس في بلدك.
٨. تجنّب إجهاد الصوت. من السهل الانجرار في اللحظة الثورية. لقد طال انتظارك كي يتغيّر شيءٌ ما في مجتمعك. لا تستسلم، أقلّه ليس الآن. لكن، حتى لو بلغت الحماسة أوجها، لا تعطِ التظاهرات أقصى ما عندك. ذلك أنّ محاولة الصراخ فوق أصوات الآخرين، أو السماح لصوتك بالاختلاط بأصوات الغاضبين وانفعالاتهم، أو حتّى الهمس بخطط اليوم التالي، قد تتعب صوتك. عليك الاقتصاد في استعمال قطبَيْ صوتك، همساً أو صراخاً. حتى لو تعلّمت كيف تهتمّ بصوتك بعد سنوات من التمرين، فأنت لم تتعلّم إطلاقاً كيف تواصل العمل في ظروف كهذه. تعلّم الاتّكاء إلى أصوات الآخرين، حتى لو لم تكن عديدة كما في بدايات الثورة، وحتى لو سبّب لك ذلك إحباطاً. على كل حال، أنت لست نجماً هنا، كما أنك لست عضواً في فرقة مسرحية صغيرة، فالموضوع أكبر من ذلك بكثير. لن تتوقّف الثورة إن متّ. ولكن، إيّاك أن تموت، لأنّك عندها، لن يعود بإمكانك التمثيل.
نصيحة إضافية (في حال قضت الثورة نحبَها)
تجنّب النحنحة، فهي تضرّ أكثر مما تنفع. في عالم ما بعد الثورة حيث اجتمعت الجائحة والتضخّم وانقطاع الكهرباء والقلق من أن كلّ محاولاتك الحثيثة لم تتخطَّ مستوى لعبة "أبطال وحرامية"، قمتَ بتطوير حركة عصبية تجعلك تبصق البلغم المتراكم حول أوتارك الصوتية بسعلة صغيرة. فالساحات الخالية وعيون الناس الفارغة تجعلك تسأل نفسك ما هو الأمر الذي استدعاك إلى الشارع؟ وفيما تتلفّظ بكلمة "ثورة" أو "انتفاضة" أو "حراك" (مع أو دون صيغة السؤال)، تعود لتظهر حركتك العصبية. تتساءل ما هو المصطلح الأنسب، ولكن لا شيء يخرج من فمك. تلتصق الكلمات بطرف حلقك، ولعلّها تعلّمك تجنّب التعرّض إلى تلك الفترة أصلاً. هذا لا يعني أنها لا تسكنك. تقول "أحمّ" كي تتمكّن من التفوّه بكلمة، ولكنّك مبحوح وغير قادر على إطلاق أي صوت. عوضاً عن الـ"أحمّ"، تعلّم أن تبلع ريقك كلّما برزت حاجةٌ للتصنيف، وبذلك تكون قد أعفيت أوتارك الصوتية من الاحتكاك المجهد داخل هذه الفجوة الصغيرة. ابلع الفشل، ابلع الإخفاق، ابلع الفرجة. فغداً قد تُستدعى إلى الشارع مجدداً، وعندها، كل ما يكون قد تبقّى لك هو صوتك.
المراسل: رايح صوتك قد ما معصّبة اليوم ومصرّخة أو...؟
مواطنة: لا والله، رايح صوتي مش بس قد ما معصّبة. رايح صوتي لأن نحنا كنا أول ناس. تطوعنا ونزلنا ننضّف البور وننبّش على الضحايا. نحنا منا شغلتنا. رايح صوتي من اللي شميناه. نحنا اليوم، بدن ثورة؟ هي ثورة. دفعنا حقها شهدا، دفعنا حقّها بيروت. اتّهمونا أنه كسرنا بيروت، بس هني فجّروا بيروت.
الشروط والأحكام (التي لا يقرأها أحد):
لو حدث أن قضى انفجارٌ على نصف مدينتك، اعتبر النصيحة المقدّمة أعلاه لاغية. وذلك لأنك سوف تقوم بالتقيّؤ بعد أن ترميك قوة ضغط مجهولة المصدر. المباني كلها ستتدشّى زجاجاً يتداعى في آن واحد، فيحوّل المدينة لبرهة إلى نافورة من البرق الزائل. وعندما تستجمع أنفاسك وتلاحظ مدى الدمار المحيط بك، ستتقيّأ مجدداً. عندها، ستكون قد تنشّقت رواسب ٢،٧٥٠ طناً من نترات الأمونيوم المحترق الذي كانت دولتك قد خزّنته سنوات طوالاً في مرفأ المدينة. ستكون قد لفّتك قشرةٌ من الغبار الأبيض الذي تسبّبت به المباني المنهارة والذي تنشّقته. إن لم يُسلب صوتك منك بعد، سيُسلب منك حتماً حين تعلم أن ثمة من قُتل، وثمّة من اقتُلعت عيونه، فيما لا يزال آخرون في الكوما. في الأيام القليلة التالية، لن يعود جسدك إلى طبيعته- ولكن لا تضغط عليه. انضمّ إلى جموع المواطنين الذين يبحثون عن بشر وحيوانات تحت الأنقاض، وساعدهم على التنظيف فيما تقف الدولة متفرّجةً. إعلم أنّ هذه هي النهاية المنطقية للنيوليبرالية، حيث لا أحد مسؤول عن لملمة حياتك إلاّك. حذِّر الناس في مدن أخرى بأن دورهم قد يكون التالي، لكن لا تيأس إن لم يعتبروا. وفيما يعيد الانفجار إحياء الثورة، لا تنسَ أن تأخذ هذا الدليل معك. خذه، قطِّعْه نصفَيْن، وإن استطعت اجتياز الرصاص الحي الذي يطلقونه عليك، استخدمه لخنق زعمائك عبر حشوه في حلقهم.